الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا} من هاهنا شروع في النهي عما كانوا عليه في الجاهلية من إيذاء النساء بصنوف من العذاب وضروب من البلاء وذلك أنواع: الأول قوله: {لا يحل لكم أن ترثوا} وفيه قولان: أحدهما الوراثة تعود إلى المال أي لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثهون أموالهن وهن كارهات لإمساككم، وثانيهما أنها ترجع إلى أعيانهن. وكانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الأوّل الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئًا فنزلت. النوع الثاني: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} قال أكثر المفسرين: كان الرجل منهم يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيء العشرة معها ويضيق الأمر عليها حتى تفتدي منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك. وقيل: إنه خطاب للوراث بأن يترك منعها من التزوّج بمن شاءت وأرادت لتبذل امرأة الميت ما أخذت من الميراث كما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: إنه نهي للأولياء عن عضل المرأة، أو للأزواج كما مر في سورة البقرة. قال في الكشاف: إعراب {تعضلوهن} النصب عطفًا على {أن ترثوا} ولا لتأكيد النفي. قلت: الظاهر أنه النهي لعطف الأمر وهو قوله: {وعاشروهن} عليه وصاحب الكشاف نظرا إلى لما قبله وذهل عما بعده {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} من قرأ بالفتح فلأن الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة وإنما الله تعالى هو الذي بينها، أو الشهود الأربعة هم بينوها. ومن قرأ بالكسر فلأنها إذا تبينت وظهرت صارت أسبابًا للبيان كقوله: {إنهن أضللن كثيرًا من الناس} [إبراهيم: 36] لما صرن أسبابًا للضلال. ثم إنه استثناء مماذا؟ قيل: من أخذ المال أي لا يحل له أن يحبسها ضرارًا لتفتدي إلا إذا زنت فحينئذٍ حل لزوجها أن يسألها الخلع. وكان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وقيل: استثناء من العضل نهوا عن حبسهن في بيوت الأولياء والأزواج إلا بعد وجود الفاحشة. ومن هؤلاء القائلين من زعم أن هذا الحكم منسوخ بآية الجلد. وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذٍ في طلب الخلع.النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء {وعاشروهن بالمعروف} وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة {فإن كرهتموهن} ورغبتم في فراقهن {فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدنيا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول ولد نجيب ومال كثير لليمن في صحبتها، قال صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في المرأة والفرس والدار». وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيرًا كثيرًا بأن تتخلص من زوج سيئ العشرة وتجد زوجًا آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة. يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة روي يريدها فنهوا عنه. والقنطار المال العظيم وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. {أتأخذونه} استفهام بطريق الإنكار {بهتانًا} وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير. وفي الحديث: «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته» وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبنًا. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل: بمضمر أي تصيبون بهتانًا. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتانًا أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانًا، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتانًا أي باطلًا، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعًا على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك.وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في ذاتها من حيث إنه مشعر بأنها قد أتت بفاحشة وقبض على مالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر. وقيل: المراد عقاب البهتان والإثم كقوله: {إنما يأكلون في بطونهم نارًا} [النساء: 10] ثم عجب من الأخذ مستفهمًا فقال: {وكيف تأخذونه وقد أفضة بعضكم إلى بعض} عن ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج وابن قتيبة وإليه ذهب الشافعي أن المراد بالإفضاء الجماع إذ الفضاء الساحة ويقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء. وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع. وقيل: الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها وهو قول الكلبي واختاره الفراء، ويوافقه مذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر. ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببًا قريبًا في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضًا الإفضاء لابد أن يكون مفسرًا بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخرة. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واجحد كافيًا في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟ فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأضًا الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر. ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: {وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا} قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار في الحديث: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقًا غليظًا وصفه بالغلظ لقوّته قد قالوا: صحبة عشرين يومًا قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وههنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه، وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: {حتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] وبالاتفاق لا يحصل التحليل بمجرد العقد. ولقوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] اي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبدًا.ولقوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور: 3] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون» فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي» ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له. وبقوله: «ولدت من نكاح لا من سفاح» وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضًا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقًا لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معًا، فتكون الآية نهيًا عن الوطء وعن العقد معًا، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهيًا عن القدر المشترك بينهما وهو الضم. والنهي عن المشترك يكون نهيًا عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهيًا عن التسويد والتبييض لا محالة، وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصوّر في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: {ما نكح} لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قال محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن من تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقدًا صحيحًا. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ماأخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» وقوله: «زوّجوا أبناءكم الأكفاء» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرام لا يحرّم الحلال».ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: {إلا ما قد سلف} فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: انتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه. وقيل: إلا بمعنى بعد كقوله: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحدًا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية. وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة، أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبدًا ممقوتًا عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفًا بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. {وساء سبيلًا} إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم. اهـ.
|